-1-
طَريقٌ طَويل, تَجلِس عَلَى طَرَفِ ثَوبِه مَدينةٌ ذاتَ أسْوار زئبَقِيّة تَتأثّر بِدرجاتِ الحَرَارة
بُيوتِها مُتشابِهة فِي غَرابِتها , شَوارعُها تَؤجُّ بِشتّى الذِّكْرَيات , وَ هُناكَ في السّماء/
- حلمٌ ثَمينٌ مَحفوفٌ بالفَرَاشَات
- سِربٌ حَزينٌ مِن بَقايا أُمنيات
- غيمةٌ تائِهة تَبكِي بصَمت ...
وَ على ذاكَ الكُرسِي الزمرّدي المتكئ عَلى إحدى الجُدرَان الملطّخة بِالذِّكريات
جَلَسَت بهدوء تُراقِب أكَالِيلَ الأُقحوَان -المَزروعة على الرّصيف فِي الجِهة المُقابِلة مِن الشّارِع-
وَ هيَ تُقاوِم رغمَ شدّة المطَر , وَ بعضُها انحنى استسلامًا لنِهايَةٍ تَنتَظرُه بِلهفة ! ..
ابتسَمَت نِصفَ ابتِسَامة وَ كَأنّها تُحادِث أحداً بِجانِبها أخّذَت تُتمتِم :
الزّهور بِحاجةٍ للمَطَر , رغمَ أنّه قَد يخدِشُ رقّتها, أَو يَغمُرُها بِنقائِه فَتغرَقْ ! هه ! نظَرَت إلَى ساعَتِها التي بدت كَثُغرِ طِفلةٍ تُعانِي نوبَة صُراخ ,
فالشّمسُ أزِفت بالرّحيل وَ هيَ لَم تَكتُب رِسالَتها بعد
تلكَ الرّسالَة الّتي نصَحَتها عَجوزٌ حَكيمة بِكتابَتِها زعمًا مِنها أنّ الرّقم (1) لا ينتمي لِمجال الذّكريات ..
لا تزال تذكُر كلماتها جيّداً حيِنما التَقت بِها وَ هيَ في طَريقِها لهذهِ المَدينة , فَتلكَ العجوز أمسكَت بيدها البَارِدة بقوّة وَ بدأت بالحَديث :
[ يَا أريجًا ذبُلت زهرةً كانَت تَحويه ! يَا سَجينةَ قلُوبهم , يَا حَبيسةَ أرواحِهم ,
يا عينًا جفَّ ماؤها فلم تعُد ترى سوى الظِّلال !
يَا وَحيدة ! توقّفي عن جمِع فتات الخُبز إن هاجرَ السّرب !
وَ الصّمت |توشّحيه حينما يتساقَط البَوح, وَ تُصبِح جُدران الذّاكِرة باردةً جدًّا !
فأنتِ لا تُريدينَ أن تفقدي جُزءًا مِن عقلِك !
صَغيرَتي , الذِّكرى بحاجةٍ إلى حدّين !
وَ أسرارُكِ الّتي تخبئينها داخل صندوقك الصّغير ستكسُرُه يومًا ما إن لَم تبعَثي بِها لأحَد المجانِين ! ,
ستموتينَ حينها صدّقيني , سينكسِر قلبُك الموجوع ! ]
ثمَّ صمتت فجأة وَ بدأت تتفحّص الأرجاء بنظراتٍ غَريبة , وَ كأنّها تتأكّد مِن خلوّ المكان مِن سواهما !!
ضغطَت بقوّةٍ أكبَر على يَدِها حتّى كادَت أن تكسرَ بعضاً مِن أصابِعها/ملامحها
.. وَ أكملت بنبرةٍ هادئةٍ مُخيفة:
[ إنّ في تلكَ المَدينة , ثلاثُ حمامات , بَعثري ما تملكينَه مِن فتاتٍ مشؤوم ,
علّ إحدَاهنّ تطيرُ بِه بَعيداً ذاتَ صباح فتعودُ إليكِ مع غروب الشّمس بفتاتٍ صالحٍ للأكل ,
وَ في كلَّ يومٍ قومي باختِيار حَمامة !
وَ لكن احذري يَا صَغيرتي فالحمام ليسَ كلُّه زاجِل ! ]
هَكذا ألقَت بتعاويذِها وَ اختفَت !